عندما يأتي الربيع أتذكر حيويته وعشقه لهذا الفصل الذي كان دائماً ينتظره بفارغ الصبر... كان يعلم أن الربيع وحده يحمل ذلك الجمال الذي يشتهي أن يتذوقه كل الأيام... كان صالح يملك الكثير من الخصال تجعله موضع ثقة الكثيرين وموضع إعجاب ومحبة الأهل والأصدقاء والعائلة... كانت هذه أخلاقه منذ طفولته التي قضاها في أحياء قامشلو, بين ثنايا تلك البيوت الطينية والشوارع الترابية.
كان منذ طفولته مثالاً لذلك الذي يمنح ما يستطيع لإسعاد الآخر... لا تتذكر أمه أنه أحدث مشكلة في الحارة أو غير ذلك ولا حتى كل المقربين له... كان ذكياً يتجول مع أبيه قبل أن يبلغ سن المدرسة فقد أحبه آبوه كثيراً... لم يكن يفارق مجالس الكبار فكان كبيراً بخصاله الحميدة.. بلغ قمة التهذيب في التعامل مع كل المحيط.. ومع ذهابه إلى المدرسة أكد أنه من الأذكياء والمتفوقين في صفه كان نموذجاًً يحتذى به، نظيفاً إلى أبعد حد، يملك خطاً جميلاً فهو يتقن رسم الكلمات والحروف.. كان يكره الإسراف حتى أن مصروفه المدرسي كان يعطيه لأخواته فقد أدرك منذ ذلك السن أن عليه احترام أخواته البنات وكذلك الشباب.
ومنذ صغره كان يحلم بأشياء كبيرة, بأشياء تجعل من حياته وحياة أسرته رائعة وجميلة... يحلم بوطن يكون فيه قادراً على التكلم بلغته وقادراً على عشق الألوان التي يريدها... قادراً على البوح بما في داخله من عواطف وانفعالات...
وبدأت هذه الأحلام تكبر مع كبره. فخلال المرحلة الإعدادية بدأ وعيه القومي يظهر بوضوح وبدأ يدرك خصوصية شعبه دون أن يدرك تلك الأساليب التي يكون فيها قادراً على المطالبة بحقوق ذلك الشعب المظلوم.
كبر صالح وأدرك أن الجبل بحاجة إليه, كانت ثمة صرخة من بعيد تناديه، تطلب منه المجيء، تقول في أعماقه إن الدم ينزف وإن جرح الوطن بليغ وعميق، كانت للصرخة أثرها في روحه فأقسم أن يكون ابناً لذلك الجبل وأن يموت في حضنه ويفن بين صخوره فالموت في حضن الجبل من أجل الوطن هي أروع لوحة يستطيع الإنسان أن يرسمها إذا شاء هكذا كان يحلم وهكذا قرر أن يحمل أفكاره ويتجه صوب ذلك الحلم، بدأ ينمي فكره ويقرأ كثيراً ليكون قادراً على العطاء، كان يعشق الكتاب كعشقه لتراب الوطن وعشقه لحضن أمه، يعشق أصدقائه وأخوته، شوارع حيّه وأزقتها، يعشق السهر لأجل شيء يحلم به ويرغب في الوصول إليه.
كبر صالح وكبر حلمه، درس معهد المراقبين الفنيين ولم يكن ذلك أبداً طموحه، كان حلمه أكبر وأكبر ولكن الظروف المعيشية لأسرته حالت دون تحقيق الكثير من طموحاته على الصعيد التعليمي فقد كانت درجاته تخوله للدراسة الجامعية وعلى الرغم من ذلك بدأ يدرس لينهي واجبه كطالب ناجح واستطاع فعل ذلك فقد تخرج من المعهد دون تأخير وأنهى بعدها الخدمة العسكرية ليعود إلى البيت بعد سنين وليرسم من جديد أحلاماً كانت قد كبرت معه فبدأ يرمم ما كان يؤمن به وما هو قادر على فعله في الظروف المتاحة، تعرف على أعضاء من حزب العمال الكردستاني ومن هنا بدأت تجربته السياسية الحقيقية، بدأ يتعمق في قراءة أفكار PKK ويؤمن بها بعمق، بدأت هذه الأفكار تتسرب إلى دمه وتمتزج بروحه وليقرر الرحيل إلى جبال كردستان ليتحقق حلمه في الحرية والعيش الكريم، ذهب وهو يدرك صعوبة النضال وقوة العدو وهمجيته، ذهب وفي داخله ألف أمنية وأمنية، ذهب دون أن يودع لأنه أدرك أنه ربما تكون دموع أمه أقوى من حلمه وربما نظرة أبيه تخمد فيه ذلك التطلع، ذهب بعد أن ترك ذكريات عميقة وكبيرة مع العائلة، مع الرفاق، مع الأصدقاء، ذهب إلى الجبل وعانق تراب الوطن، كان سعيداً بذهابه وأرسل صوراً من هناك وهو يرقص مع رفاقه لعله فرحة لقائه بكردستان، كان يحمل سلاحاً يفتخر به ويؤكد من أعماقه أنه سيناضل كثيراً كثيراً من أجل تحرير كردستان.
كان يعشق ألوان وطنه (الأخضر – الأحمر – الأصفر) ويرغب أن يحمل تلك الألوان بيده وروحه دائماً، يرغب أن يكفن بتلك الألوان إذا استشهد ذات يوم.
كم الحلم جميل، وماذا يملك الكردي غير الحلم والرغبة في تحقيقه، يملك الإرادة والعزيمة يملك تفاصيل الربيع وقسوة الحديد، يملك أنهاراً وجبالاً وسهولاً، وكل ذلك يخولنا أن نملك ما نحن نريد، نحن الكرد المقموعون حتى الرمق.
هو الدم إذاً سندفعه ثمناً لأحلامنا، هي الروح سنقدمها ثمناً لرغباتنا ومقدساتنا، هو الوطن أغلى حلم نملكه وأجمل حلم نشاء بنائه قريباً.
خرج صالح إلى ذلك الحلم وأراد أن يحقق ما يريد فروى بدمه تراب الوطن ومنح تلك الجبال روحه وكل تفاصيله، كم أنت عظيم أيها الشهيد حين يداعبك نسمات ذلك الوطن وأنت بين ذراعيه ممداً ممزوجاً بأعشاب نيسان، ممزوجاً بطعم العسل ورحيق الورود، ممزوجاً برائحة الجنة وتفاصيل الآخرة.
نعلم أنك ما كنت تريد الموت ولكن هو ثمن لتحقيق الوطن، ما كنت تريد أن تموت ولكن الثلج خانك وما كان قادراً على إخفاء آثارك، ما كنت تريد أن تموت ولكنه الرغبة في التضحية ومنح السعادة للأجيال القادمة، ما كنت تريد أن تموت ولكن هي مشيئة التاريخ فنحن نعلم أنك كنت تريد أن تكون مثل كل الرجال تحب امرأة وتعيش معها كما يعيش الإنسان عادة وتتسامر مع أصدقائك وعائلتك ولكن عشق الوطن كان أكبر بالنسبة لك.
نعلم جيداً أنك قبل أن تتنفس النفس الأخير نظرت إلى السماء لتقول لأمك إنني أحبك أمي فاعذريني على الغياب ولتقول لأخوتك إني راحل لأجلكم فأعذروني أني ما استطعت إرسال قوس قزح إليكم فوقتي ما كفاني، ولتقول لشعبك هذا دمي أقدمه عربوناً لعشقي لكم، هذا دمي فخذ منه ما تريد وامنحني لحظة أقول فيها لأبي العظيم أن نموت من أجل الوطن فلا تبكِ وارفع من عزيمتك وكن أباً لكل الشهداء، ولأقول للجميع امنحوا دمائكم لهذه السهول ليأتي الربيع دائماً كما نريد ناصعاً جميلاً وردياً، ليأتي الفرح غداً بغزارة وليستقر في أعماق أولادنا.
لم تكن بندقيته تفارقه حتى لحظة موته، أراد أن يكون فدائياً مضحياً بنفسه في سبيل إنقاذ ما تبقى من رفاقه هناك، فاستشهد صالح وكان كبيراً وعظيماً في ذلك.
نعلم أيها الشهيد أنك نظرت إلى السماء وتذكرت سريعاً كل أصدقائك، كل حيك، وتذكرت أولاً أمك وأخوتك ووالدك، تذكرت تلك المرأة التي أحببتها ذات يوم ولم تبح لها بما في قلبك، تذكرت تفاصيل مدينة قامشلو وقلت للجميع سنلتقي لنؤكد أن حب الوطن لا يموت وهو أعظم حب حقيقي في الكون.
كم أنت عظيم أيها الشهيد فمبارك دمك على تلك الجبال، مبارك دمك على تلك الحقول، مبارك دمك على شعبك، مبارك دمك على كردستان وأطفال كردستان وكل كائنات كردستان، وستبقى أبداًً في ضمائرنا حياً خالداً.
احتراق
إلى الشهيد صالح (باهوز) في غيابه العميق
على حافة الحلم
بدأ الدم يتساقط
الجرح بليغ ونازف
من سيكون سيد الربيع
في هذا السهل المزركش؟!!!
من سيقرأ فصول الأمكنة
التي كانت بالأمس وطناً لي؟!!!
من سيغني
ألم الجبل ونزيف الطير؟!!!
هذه أصابعي مثل عشب يابس
سيحترق أولاً حين الوداع
سيحترق ثانياً حين الرحيل
وسيحترق أخيراً حين الخلود
حبيبي أنت منذ المطر
وحبيبي أنت حتى انتهاء الغياب
تسكن تلك المسافة البعيدة
تحمل أشجاراً وباقة رغبات
تغمض عينيك
وتنتظر ولادة كردستان